كثيرًا ما تتساءل المرأة، وكذلك الرجل، عن كيفية احتواء شريك الحياة الزوجية الذي يشرد بعيدًا حينًا، وحينًا ينفر مغضبًا.
وقبل أن أتناول هذه المهارة أحب أن أقدم بين يدي هذا الموضوع بقصة توضحها، وتحكي أن زوجًا عاد من عمله في موعده المعتاد، ففتحت له الزوجة، فألقى عليها السلام، ردت عليه بفتور وإهمال وذهبت هي إلى المطبخ لتُحضر له طعام الغداء.
جلس الزوج ينتظر الغداء، وبعد ما يقارب الساعة أو أقل قليلاً خرجت الزوجة تحمل له صينية عليها غداؤه، ثم وضعتها أمامه وانصرفت.
بدأ الزوج يتناول الطعام في صمت، ولكنه فوجئ أن اللحم لم ينضج جيدًا، والأرز بلا ملح، والطعام بارد، حتى الصينية بدت غير نظيفة كما هو معتاد.
تناول الزوج طعامه وتذكر مشكلة الأمس، حينما دفعه إرهاق العمل إلى أن ينهي حوارًا بدأته زوجته بطريقة شعر أنها ضايقتها، لكنه ظن الأمر تافهًا وسيُنسى مع تباشير الصباح، وخرج إلى عمله دون أن يلقي بالاً أو يفكر في جبْر خاطرها.
لكنه تذكر أيضًا أنه يعاملها أفضل معاملة، فلماذا لا تحتمل منه شيئًا بسيطًا كهذا.
حقًّا ما أصدق الحكمة: اتَّقِ شر من أحسنتَ إليه، أهذا جزاء حسن معاملتي؟
هكذا قال لنفسه.
وبعد أن فرغ من طعامه اتجه نحو المطبخ وهو يتذكر أيضًا أن هذه الحكمة التي يرددها الناس مَبتورة ناقصة، وأن أصلها وتمامها: اتقِّ شرَّ مَن أحسنت إليه بزيادة الإحسان إليه. وليس كما يظن البعض بقطع الإحسان إليه.
وصل إليها وهي تصب الشاي دون أن تلتفت إليه، فرفع يده وأمسك بجانبي رأسها، وطبع قبلة حانية على رأسها، وقال: لقد تصرفتِ اليوم كعروس جديدة، فأحببت أن أعاملك معاملة العروس الجديدة.
عندئذ انفجرت الزوجة في البكاء، ناظرة إلى زوجها الحنون في إكبار وإجلال قائلة: بل أنت سامحني يا حبيبي، لا أدري كيف أعماني الغضب عن حقك عليّ؟
هذه القصة الصغيرة توضح بشكل كبير ما قصدته بمعنى الاستيعاب، وأرى أن ما فيها من المعاني والقيم والمفاهيم الأصيلة النبيلة، وسهولة التسرب إلى مسارب القلوب وتشربها، وإمكانية الإبداع على منوالها ما يَسهُل على الكثيرين والكثيرات من الأزواج والزوجات الصالحات إن شاء الله.
إن استيعاب الزوج أو الزوجة يعني قدرة أحدهما على اجتذاب الآخر وربحه على اختلاف أوضاعه وحالاته ومزاجه وثقافته.. إلخ. كما يعني أن يتفهم الزوجان أن لكل منهما حالات وأحوال وطموحات وآمال ومشكلات تختلف من وقت إلى آخر، فضلاً عن ضرورة مراعاة كل منهما لنمط تفكير الآخر.
وما اعتاده من اختلاف في طرائق العيش وأساليب التصرف، وكذلك الاختلاف في القدرات الحسية والنفسية.
إن الزوج الناجح هو القادرعلى استيعاب شريكه حتى في أوقات اختلافه معه وتجاوزه غير المبرر، وهذا الأمر له أصول في سيرة خير الأزواج نبينا r، وأحسب أن الكثيرين منا يذكرون بكثير من الإعجاب والتعجب استيعاب النبي r لزوجاته رضي الله عنهن، ومن ذلك ما روته أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا يَعْنِي أَتَتْ بِطَعَامٍ فِي صَحْفَةٍ لَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r
وَأَصْحَابِهِ فَجَاءَتْ عَائِشَةُ مُتَّزِرَةً بِكِسَاءٍ وَمَعَهَا فِهْرٌ فَفَلَقَتْ بِهِ الصَّحْفَةَ،فَجَمَعَ النَّبِيُّ r بَيْنَ فِلْقَتَيْ الصَّحْفَةِ وَيَقُولُ: "كُلُوا غَارَتْ أُمُّكُمْ" مَرَّتَيْنِ ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ r صَحْفَةَ عَائِشَةَ فَبَعَثَ بِهَا إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَأَعْطَى صَحْفَةَ أُمِّ سَلَمَةَ عَائِشَةَ.[رواه البخاري وأصحاب السنن، وهذه رواية النسائي].
ولنا أن نتخيل زوجًا يجلس مع ضيوفه ثم تأتي زوجته فتكسر طبق الطعام الذي أمامهم مُتعمدةً! كيف يمكن أن يتصرف الزوج مع هذه الزوجة مهما كان أخلاقه حسنة كريمة؟ ولكن النبي r قدوتنا وأسوتنا الحسنة يعلمنا في هذا الموقف الحرج كيف يستوعب الرجل العاقل زوجته في أصعب المواقف!
كما أن الزوجة الناجحة تستطيع كذلك أن تستوعب زوجها في أحلك الظروف، وأشد الأزمات، وكلنا يذكر السيدة خديجة رضي الله عنها واحتواءها للنبي r، وهو الشاب الذي تكبره بخمسة عشر عامًا، ويتركها بالأيام وأسابيع ليتعبد في الغار منفردًا، وحين يأتيها خائفًا متحيرًا يوم نزل عليه الوحي قائلاً: "لقد خشيت على نفسي".
فإذا هي تستوعبه وتحتويه وتقول كلماتها المطمئنة المهدئة: "كلا والله ما يخزيك الله أبدًا..." الحديث متفق عليه، ثم لا تكتفي بذلك حتى تنطلق به إلى ابن عمها، فيبشره بالنبوة كما هو معلوم ومشهور.
كانت دائمًا قادرة على استيعاب واحتواء زوجها كلما رجع إليها حزينًا متألمًا آسفًا من تكذيب قومه له، وإيذائهم له بقبيح الأفعال والأقوال، فتخفف عنه ما يلقاه منهم، وتهون عليه، فصارت أسوة وقدوة للزوجات المؤمنات.
وللحديث بقية..
الكاتب: يوسف إسماعيل سليمان
المصدر: موقع لها أون لاين